فصل: تفسير الآيات (61- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (61- 62):

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُون (62)}
يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أي: لأهلك جميع دواب الأرض تبعًا لإهلاك بني آدم، ولكن الرب، جل جلاله، يحلم ويستر، وينظر {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: لا يعاجلهم بالعقوبة؛ إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدًا.
قال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص أنه قال: كاد الجُعَل أن يعذب بذنب بني آدم، وقرأ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}.
وكذا رَوَى الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عُبَيدة قال: قال عبد الله: كاد الجُعَل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى، حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي، حدثنا محمد بن جابر الحنفي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة قال: سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه. قال: فالتفت إليه فقال: بلى والله، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها هُزالا بظلم الظالم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، أنبأنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله بن مسرح، حدثنا سليمان بن عطاء، عن مسْلَمة بن عبد الله، عن عمه أبي مَشْجَعة بن رِبْعي، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة، يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر».
وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي: من البنات ومن الشركاء الذين هم من عبيده، وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله.
وقوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا، وإن كان ثمَّ معاد ففيه أيضا لهم الحسنى، وإخبار عن قيل من قال منهم، كقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9، 10]، وكقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت: 50]، وقوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 77، 78] وقال إخبارا عن أحد الرجلين: أنه {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 35، 36]- فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل، بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل، كما ذكر ابن إسحاق: أنه وُجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حِكَم ومواعظ، فمن ذلك: تعملون السيئات ويجزون الحسنات؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب.
وقال مجاهد، وقتادة: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} أي الغلمان.
وقال ابن جرير: {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} أي: يوم القيامة، كما قدمنا بيانه، وهو الصواب، ولله الحمد.
ولهذا قال الله تعالى رادا عليهم في تمنيهم ذلك {لا جَرَمَ} أي: حقا لابد منه {أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} أي: يوم القيامة، {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}
قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير، وقتادة وغيرهم: منسيون فيها مضيعون.
وهذا كقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51].
وعن قتادة أيضا: {مُفْرَطُونَ} أي: معجلون إلى النار، من الفَرَط وهو السابق إلى الوِرْد ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار، وينسون فيها، أي: يخلدون.

.تفسير الآيات (63- 65):

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}
يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رُسُلا فكُذِّبت الرسل، فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة، فلا يهيدنَّك تكذيب قومك لك، وأما المشركون الذين كذبوا الرسل، فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه، {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} أي: هم تحت العقوبة والنكال، والشيطان وليهم، ولا يملك لهم خلاصا؛ ولا صريخ لهم ولهم عذاب أليم.
ثم قال تعالى لرسوله: أنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه، فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه {وَهُدًى} أي: للقلوب، {وَرَحْمَةً} أي: لمن تمسك به، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
وكما جعل تعالى القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك يحيي الله الأرض بعد موتها بما ينزله عليها من السماء من ماء، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: يفهمون الكلام ومعناه.

.تفسير الآيات (66- 67):

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}
يقول تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ} أيها الناس {فِي الأنْعَامِ} وهي: الإبل والبقر والغنم، {لَعِبْرَةً} أي: لآية ودلالة على قدرة خالقها وحكمته ولطفه ورحمته، {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} وأفرد هاهنا الضمير عودًا على معنى النعم، أو الضمير عائد على الحيوان؛ فإن الأنعام حيوانات، أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان.
وفي الآية الأخرى: {مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21]، ويجوز هذا وهذا، كما في قوله تعالى: {كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 54، 55]، وفي قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 35، 36] أي: المال.
وقوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} أي: يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كلٌ إلى موطنه، إذا نضج الغذاء في معدته تصرف منه دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه، ولا يتغير به.
وقوله: {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} أي: لا يغص به أحد.
ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا، ثَنَّى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة، من ثمرات النخيل والأعناب، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه؛ ولهذا امتن به عليهم فقال: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} دل على إباحته شرعا قبل تحريمه، ودل على التسوية بين السَّكَر المتخذ من العنب، والمتخذ من النخل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وكذا حُكْم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك، كما قال ابن عباس في قوله: {سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} قال: السَّكَر: ما حرم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما.
وفي رواية: السَّكر حرامه، والرزق الحسن حلاله. يعني: ما يبس منهما من تمر وزبيب، وما عمل منهما من طلاء- وهو الدِّبس- وخل ونبيذ، حلال يشرب قبل أن يشتد، كما وردت السنة بذلك.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ناسب ذكر العقل هاهنا، فإنه أشرف ما في الإنسان؛ ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: 34- 36].

.تفسير الآيات (68- 69):

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}
المراد بالوحي هاهنا: الإلهام والهداية والإرشاد إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها، ومن الشجر، ومما يعرشون. ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها، بحيث لا يكون بينها خلَل.
ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى لها مذللة، أي: سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة، والأودية والجبال الشاهقة، ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها وبيتها، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل، فتبني الشمع من أجنحتها، وتقيء العسل من فيها وتبيض الفراخ من دبرها، ثم تصبح إلى مراعيها.
وقال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا} أي: مطيعة. فجعلاه حالا من السالكة. قال ابن زيد: وهو كقول الله تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72] قال: ألا ترى أنهم ينقلون النحل من بيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم.
والقول الأول أظهر، وهو أنه حال من الطريق، أي: فاسلكيها مذلَّلةً لك، نص عليه مجاهد.
وقال ابن جرير: كلا القولين صحيح.
وقد قال أبو يعلى الموصلي: حدثنا شيبان بن فَرُّوخ، حدثنا سُكَيْن بن عبد العزيز، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُمْرُ الذباب أربعون يوما، والذباب كله في النار إلا النحل».
وقوله تعالى {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أي: ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة، على اختلاف مراعيها ومأكلها منها.
وقوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أي: في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم. قال بعض من تكلم على الطب النبوي: لو قال فيه: الشفاء للناس لكان دواء لكل داء، ولكن قال {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أي: يصلح لكل أحد من أدواء باردة، فإنه حار، والشيء يداوى بضده.
وقال مجاهد بن جَبْر في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} يعني: القرآن.
وهذا قول صحيح في نفسه، ولكن ليس هو الظاهر هاهنا من سياق الآية؛ فإن الآية إنما ذكر فيها العسل، ولم يتابع مجاهد على قوله هاهنا، وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الآية [الإسراء: 82]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
والدليل على أن المراد بقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} هو العسل- الحديثُ الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة، عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استَطْلَق بطنُه. فقال: «اسقه عسلا». فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول الله، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا! قال: «اذهب فاسقه عسلا». فذهب فسقاه، ثم جاء فقال: يا رسول الله، ما زاده إلا استطلاقا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله، وكذب بطن أخيك! اذهب فاسقه عسلا». فذهب فسقاه فبرئ.
قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت، فأسرعت في الاندفاع، فزاد إسهاله، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه، وصلح مزاجه، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل. هذا لفظ البخاري.
وفي صحيح البخاري: من حديث سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشفاء في ثلاثة: في شَرْطةِ مِحْجَم، أو شربة عسل، أو كيَّةٍ بنار، وأنهى أمتي عن الكي».
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، سمعت جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كان في شيء من أدويتكم، أو يكونُ في شيء من أدويتكم خير: ففي شرطة مِحْجَم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي».
ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة، عن جابر، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله، أنبأنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا عبد الله بن الوليد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر الجُهَني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إن كان في شيء شفاء: فشَرْطة مِحْجَم، أو شربة عسل، أو كيَّة تصيب ألما، وأنا أكره الكي ولا أحبه».
ورواه الطبراني عن هارون بن مَلّول المصري، عن أبي عبد الرحمن المقرئ، عن حيوة بن شريح عن عبد الله بن الوليد، به. ولفظه: «إن كان في شيء شفاء: فشرطة محجم»... وذكره وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه: حدثنا علي بن سلمة- هو اللبقي- حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن».
وهذا إسناد جيد، تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعًا، وقد رواه ابن جرير، عن سفيان بن وَكِيع، عن أبيه، عن سفيان- هو الثوري- به موقوفا: وَلَهو أشبه.
وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صَحْفَة، وليغسلها بماء السماء، وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلا فليشربه بذلك، فإنه شفاء. أي: من وجوه، قال الله: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82] وقال: {وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، وقال في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}
وقال ابن ماجه أيضًا: حدثنا محمود بن خِدَاش، حدثنا سعيد بن زكريا القرشي، حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي، عن عبد الحميد بن سالم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لَعِق العسل ثلاث غَدَوَاتٍ في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء».
الزبير بن سعيد متروك.
وقال ابن ماجه أيضًا: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سَرْح الفريابي، حدثنا عمرو بن بكر السَّكْسَكي، حدثنا إبراهيم بن أبي عبَلة. سمعت أبا أبي ابن أم حَرَام- وكان قد صلى القبلتين- يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليكم بالسَّنَى والسَّنُّوت، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام». قيل: يا رسول الله، وما السام؟ قال: «الموت».
قال عمرو: قال ابن أبي عبلة: «السَّنُّوت»: الشِّبْتُ.
وقال آخرون: بل هو العسل الذي يكون في زِقَاق السمن، وهو قول الشاعر:
هُمُ السَّمْنُ بالسَّنُّوت لا ألْسَ فيهم ** وَهُمْ يَمنَعُونَ الجارَ أنْ يُقَرَّدا

كذا رواه ابن ماجه. وقوله: لا ألْسَ فيهم أي: لا خلط. وقوله: يمنعون الجار أن يقَرَّدا، أي يضطهد ويظلم.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها للشمع والعسل، وهو من أطيب الأشياء، {لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها، فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر، الحكيم العليم، الكريم الرحيم.